tbc

لاتينو أمريكانو: عن صالات العرض

ينقسم المعرض إلى ستة أقسام تستكشف جغرافيا أميركا اللاتينية المعقدة، وهوياتها المتنوعة، ومشاهدها الحضرية، وحركاتها الفنية.

وبدلاً من اتباع تسلسل زمني أو جغرافي، يتبع المعرض مقاربةً موضوعية، تربط بين الحركات الفنية الحديثة والمعاصرة في أميركا الوسطى والجنوبية. وتُبرز هذه الروابط الجوانب المواضيعية، والشكلية، والمادية، والمفاهيمية، ما يكشف عن سمات مشتركة وأخرى متمايزة. وتتيح هذه البنية للزوار التفاعل مع الأفكار والنقاشات الأساسية التي أسهمت في تشكيل المشهد الفني في المنطقة.

المشاركة مع صديق

كلُ العناصر متصلة ببعضها؛ كجسد واحد

منذ القرن السادس عشر، فرضت النظرة الاستعمارية هيمنتها على التمثيلات الفنية والعلمية للأميركيتَين. ومن خلال تبني الأساليب والتصورات الطليعية، أعاد فنانو أميركا اللاتينية المعاصرون رسم ملامح أوطانهم بتصورهم الخاص، وسعوا إلى تجسيد التنوع الثقافي والجغرافي الذي تزخر به القارتان، وإبراز جمالهما الآسر. فمثلاً، يستحضر الفنان الكوبّي ويفريدو لام في أعماله عناصر مستوحاة من قصب السكر، وسعف النخيل، وضوء البحر الكاريبي، ليصوغ من خلالها مناظر طبيعية نابضة بأشكال بشرية. ويمزج الفنان لام عبر هذا الأسلوب بين الخصائص النباتية، والحيوانية، والبشرية، في إشارة إلى جذوره الكوبية الإفريقية، والتي تزخر تقاليدها بالخيال والغموض.

ومن منطلق استكشاف تلك الصِلات المشتركة، يتناول بعض الفنانين العلاقة بين البشر والأجناس الآخرى، متطرقين إلى موضوعات كالطبيعة، والجماعة، والروحانية، وهشاشة البيئة الطبيعية. ويُلقي شيروناوي هاكيهيوي الضوء بشكل خاص على هذه الفلسفة الجماعية التي ترى الكون نظاماً إيكولوجياً متكاملاً، كلّ عناصره متصلة ببعضها؛ كجسد واحد. وفي ذلك الإطار، يوثق كلٌ من هاكيهيوي وموجاخي غيهو، المعروف أيضاً بأبيل رودريغيز، بيئتهما بسجلات وجدانية، يمزجون فيها بين معرفتهم النباتية وممارساتهم المتوارثة عن أجدادهم.

اتجه فنانون معاصرون آخرون إلى التركيز على التدهور البيئي في أعمالهم. فابتداءً من منتصف الستينيات، شكّلت تدخلات نيكولاس غارسيا أوريبورو اللونية على المسطّحات المائية، وما وثّقه من صور فوتوغرافية، دعوةً بصرية للتأمل في أزمة تلوّث المياه على مستوى العالم. وبالمثل، تُركز مونيكا جيرون على التحولات الطارئة على البيئة، مُتحريةً العلاقة المُتقلبة التي تربط بين الذات البشرية والكوكب.

فيدا-أميركانا  

في القرن العشرين، انصب تركيز الفنانين على استكشاف سبل أصيلة لتجسيد هوية أميركا اللاتينية الحديثة. وفي عام 1921، أطلق دافيد ألفارو سيكييروس مجلته ذات الصدى الواسع "فيدا-أميركانا"، لينشر على صفحاتها سلسلة من البيانات التي ألهمت فناني أميركا اللاتينية ومفكريها بالتفاعل مع العناصر الشعبية الغنية والمستمدة من التقاليد البصرية والمادية للثقافات الأميركية. وهكذا، تجلّت الموسيقى والرقصات الشعبية مثل الساندونغا، والتانغو، والكاندومبي في أعمال دييجو ريفيرا، وإميليو بيتيوروتي، وبيدرو فيغاري. وبالمثل، يصور كلٌ من أنطونيو بيرني وكانديدو بورتيناري مشاهد تقليدية للحياة الاجتماعية كالاحتفالات والأسواق.

بدوره، لم يكن فن البورتريه مجرد وسيلة شائعة للتعبير عن الذات؛ بل تضمن أيضاً أفكاراً مشابهة لما سبق. فعلى سبيل المثال، تُصور فريدا كاهلو نفسها وهي ترتدي "الهويبيل"، وهو رداء قطني مطرّز، بينما تتداخل مع ضفائر شعرها خيوط خضراء سميكة، على طريقة نساء السكان الأصليين في وسط وجنوب المكسيك. وكذلك، تُدرج كلٌ من أليس راهون وريميديوس فارو في أعمالهما عناصر ثقافية متنوعة من موطنهما الجديد في المكسيك، بعد أن فرتا من حروب أوروبا المستمرة.

وعلى عكس الفنانين الحداثويين، يتبنى مبدعون معاصرون كبلقيس عيون وروزانا باولينو نهجاً نقدياً تجاه التصورات الحداثوية للهويات الإفريقية اللاتينية. وبهذا، تتناول الفنانتان تاريخ تجارة الرقيق عبر الأطلسي، وتجليات الشتات الإفريقي في الأميركتين. فمثلاً، تسعى باولينو لإعادة قراءة الهوية الإفرو-برازيلية باستخدام صور أرشيفية، ومنسوجات، وقصائد شعرية بهدف تفكيك المفاهيم التي غذتها العنصرية الاستعمارية والعلمية.

سيدادجي، سيتي، سيتيه (تعني مدينة بثلاث لغات)

أثّرت تحولات الحياة الحضرية في الطريقة التي أعاد بها الفنانون تصور ممارساتهم الفنية، إذ أصبحت المدن موضوعاً رئيسياً للفنانين الطليعيين، ومنصّة للتبادل الإبداعي وتداول الأفكار الجديدة. في أعمالهما، استكشف رافائيل باراداس وخواكين توريس غارسيا، اللذان أقاما في أوروبا لعدة سنوات، مفهومي التجاور والتفتت. بينما سعت عدسة هوراسيو كوبولا وجيرالدو دي باروس إلى توثيق تطورات المدينة من خلال زوايا تأطير مختلفة وأساليب تجريبية مبتكرة.

كما تتيح المدن للفنانين مساحات فريدة تمكّنهم من تخيّل سُبل مثالية للحياة. استخدم كلٌ من ليدي براتي، وهليو أويتشيسيكا، وغونزالو فونسيكا التجريد الهندسي لتخيّل عالمٍ يكون فيه للفن القدرة على التأثير في كل جانب من جوانب الحياة الحضرية وتشْكيلها. وفي المقابل، صاغ السرياليان خوان أوجورمان وأليخاندرو زول سولار رؤاهما للمدينة من خلال الربط بين تقاليدٍ بصرية متنوعة، تتراوح بين الأعمدة الرومانية والمناظر المجسّمة ثلاثية الأبعاد.

تسلّل الشعر إلى قلب التصورات الطليعية للمدينة، لا سيما من خلال أعمال شعراء القصائد البصرية، الذين تبنوا نهجاً قريباً من فنون التصميم والفنون البصرية، واعتمدت أعمالهم في إيصال المعنى على عناصر الشِعر الهيكلية، والصوتية، والتنضيدية (الطباعية). وعلى سبيل المثال، يستكشف الشاعر البصري ذو الأصل البرازيلي أوغستو دي كامبوس، في عمله الفني "سيدادجي سيتي سيتيه" (1962)، مفهوم المدينة من خلال ابتكار قصيدة مكوّنة من سطر واحد، تعتمد على سلسلة من الكلمات المترابطة التي تنتهي جميعها باللاحقة "سيدادجي"، وهي تعني "مدينة" باللغة البرتغالية.

استقلال الفن – للثورة

شهِد القرن العشرون تحولاتٍ اجتماعية، وسياسية، وثقافية جذرية طالت مختلف مناطق العالم. وشكّلت مظاهرات العمّال، وانتفاضات الطلاب، والمواجهات العسكرية، وغيرها من الحركات اليسارية، عوامل محفّزة لهذه التحولات. وقد تفاعل الفنانون مع هذه الأحداث من خلال خلق صور احتجاجية شكّلت محوراً أساسياً في أعمالهم. أشار ليون تروتسكي، الذي كان يعيش في منفاه في المكسيك آنذاك، إلى جانب دييغو ريفيرا وأندريه بريتون، إلى أهمية الفن في هذه المجتمعات حديثة النشأة، وذلك في بيانهم المشترك عام 1938 بعنوان "بيان: نحو فن ثوري حر".

لم تقتصر التحولات التي أفرزتها الثورة المكسيكية عام 1910 على الواقع الاجتماعي للشعب المكسيكي، بل امتدت لتشمل الثقافة البصرية للبلاد. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، تبنى فنانون مثل دافيد ألفارو سيكييروس ودييغو ريفيرا لغة حداثوية مكسيكية جديدة تجلّت في الجداريات الضخمة. ركّزت هذه الجداريات، التي غالباً ما رُسمت على مبانٍ حكومية، على النضالات الثورية وثقافات الشعوب الأصلية القديمة. وألهمت حركة الجداريات المكسيكية حركات اجتماعية أخرى في أميركا اللاتينية؛ مثل حركة السكان الأنديز الأصليين، التي مثلها فنانون مثل أليخاندرو ماريو إلينيس، وخيسوس رويث دوران.

وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قوبلت الأنظمة الديكتاتورية التي طال أمدها في أميركا الجنوبية بالاحتجاجات الجماعية المُناهضة للعنف الممنهج الذي مارسته هذه الأنظمة. وخلال تلك الفترة، غذّت الأفكار المناهضة للرأسمالية والإقصاء البنيوي للمجتمعات المختلفة العديد من الممارسات الفنية. كمثال على ذلك، وضع سيلدو ميريلس رسائل احتجاجية على زجاجات كوكاكولا قبلَ إعادتها إلى المتاجر، بهدف نشر رسائل مناهضة للسلطة. وشكّل فن البريد وسيلةً أخرى لتجاوز الرقابة الحكومية الصارمة، حيث استخدم الفنان التشكيلي تشيلي الأصل أوجينيو ديتبورن البريد لنشر أفكاره المناهضة للديكتاتورية والتوعية بحالات الاختفاء القسري التي تجاوزت حدود بلاده.

قصيدة في الفضاء

na

العمل الفني التركيبي الاستثنائي "الكويبو المفقود (ذاتُ العُقَد)" للفنانة الشيلية سيشليا فيكونيا يتميز بكونه عملاً تفاعلياً يُخاطب مختلف الحواس.

صورة: الكويبو المفقود "ذاتُ العُقَد" (2018) سيشليا فيكونيا (1948، سانتياغو، شيلي)، صوف وعرض فيديو مع صوت، مجموعة إدواردو ف. كوستانتيني

صورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر، ©2025

طوّرت حضارة الأنديز تِقنية "الكويبو"، وهي عبارة عن خيوط معقودة من صوف ملوّن ومغزول أو من شعر حيوان اللاما، تستخدم كوسيلة لتوثيق المعلومات. ووثقت هذه الممارسة عدة جوانب من التنظيم الاجتماعي في إمبراطورية الإنكا القديمة، مثل الالتزامات الضريبية، والبيانات الزمنية، والخطط العسكرية. كما كان يُستخدم "الكويبو" لحفظ القصائد والسرديات التاريخية. مثّلت هذه الخيوط مصدر إلهام للفنانة الشيلية سيشليا فيكونيا، التي قدمت عام 2018 العمل الفني التركيبي الاستثنائي "الكويبو المفقود (ذاتُ العُقَد)"، والذي يتميز بكونه عملاً تفاعلياً يُخاطب مختلف الحواس. من خلال عروض فيديو بأربع قنوات، يمثّل هذا العمل تحيةً للشعوب القديمة وأنماط حياتها التي دمّرها الاستعمار الإسباني. كرّست فيكونيا حصّة كبيرة من ممارستها الفنية لدراسة، وتفسير، وإعادة إحياء تقنية "الكويبو". فبالنسبة لفيكونيا، تُمثل هذه التقنية "قصيدة في الفضاء، وسيلة للتذكر؛ تجمع بين الجسد والكون في آن واحد".

بين الخطوط والضوء

شهد الفن الأميركي اللاتيني في النصف الثاني من القرن العشرين تحوّلات محورية في لغته البصرية، كنتيجة للتغيرات التي طالت البُنى الحضرية والمجتمعية، حيث بدأ الفنانون في تحدي تخصصات الفنون البصرية التقليدية، وركزوا على بنائيتها ومادياتها، وغيروا طرق عرضهم التقليدية جذرياً. فقد تخلّت شخصياتٌ بارزة مثل مارتن بلاسزكو، وخوان ميلي، ودي لان عن الإطار التقليدي المستطيل للوحات، مُتّجهين بدلاً من ذلك إلى الهياكل والتركيبات غير المنتظمة والمُقطّعة. وبالمثل، استبدلت غيغو (غيرتروديس غولدشميت) عرض أعمالها على القواعد بتعليقها من السقف. وتبرز هذه الأعمال المبتكرة التفاعلات بين الخطوط، والمساحات، والضوء، والظِلال.

لم تقتصر التحوّلات التي طالت العمل الفني على طريقة العرض والأسلوب. ففي ستينيات القرن الماضي، طوّرت ليجيا كلارك سلسلتها بعنوان "مخلوقات"، المكونة من ألواح ألمنيوم ذات مفاصل. تشجّع هذه الأعمال الفنية المشاهد على التفاعل معها من خلال تحريك عناصرها، ما يؤدي إلى توليد أشكال وتكوينات متعدّدة، وهو ما يُشكّل جوهر فن الحركة (Kinetic Art) الذي يركّز على هذه المشاركة الديناميكية. وتعتمد إبداعات كل من غريغوريو فاردانيغا، وخوليو لي بارك، ومارتا بوتو، على عناصر ضوئية ومحركات لتحفيز الحركة المادية داخل أعمالهم الفنية. وفي عمله "إيقاع اللون في الحركة 6" (1957)، ينسج أليخاندرو أوتيرو أوهاماً حسّية من خلال التراكب المتدرّج والتداخل بين الأشكال الخطّية والهندسية. وبهذا، تجعل هذه الأعمال من المُشاهد جزءاً من التجربة الفنية، من خلال التفاعل والمشاركة المباشرة.

العودة إلى صفحة المعرض